الأحد، 6 أغسطس 2017

لمن النخوة اليوم؟




كان العرب قديمًا قبل الإسلام لا يتناهون قط عن المُنكرات، فما تركوا منكرا إلّا أتوْهُ، إلّا أنّهم أبوْا وتمسّكوا بقيم المروءة ورفضوا أن يفرّطوا فيها أبدًا، وكان من يُدان منهم في مروءته كأنّما قد قامت قيامته، فالنّخوة والشّهامة كانت ضاربة جذورها فيهم إلى أبعد مدى، حتّى بعد ظهور الإسلام وعداوة البعض منهم ومحاربتهم للرّسول ﷺ ما تخلّوْا يومًا عنها حتّى في أشدّ الأوقات ضراوة كأوقات الحروب.

فبعد عودة النّبي ﷺ صُحبة زيد بن حارثة من الطائف، وقد لقي من ثقيف ما لقي، ولما وصل إلى حراء أرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي يسأله أن يدخل وزيد في جواره، فقال المطعم: «نعم»، ودعا بنيه وقومه فقال: «تلبّسوا السّلاح وكونوا عند أركان البيت فإنّي قد أجرت محمّدًا»، فدخل النّبي ﷺ ومعه زيد بن حارثة حتّى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى «يا معشر قريش إنّي قد أجرت محمّدًا، فلا يهجه أحد منكم» فانتهى النّبي ﷺ إلى الرّكن فاستلمه وصلّى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم وولده محيطون به. لأجل ذلك قال عنه النّبي ﷺ «لو كان مطعم بن عدي حيًا، ثمّ كلمني في هؤلاء النتنى (أسرى بدر) لتركتهم له»، وقد كان أيضًا أحد الستّة الذّين نقضوا الصّحيفة المقاطعة لبني هاشم التّي كُتبت وعُلّقت في الكعبة ومن ضمنهم أبي البختري بن هشام.

وإن تحدّثنا عن النّخوة لا ننسى أبدًا عثمان بن طلحة ذلك الصحابي الذّي كان قبل إسلامه من أشدّ المعاديين له، تحكي القصة السيّدة أم سلمة وتقول: خرجتُ وطفلي الصغير وحيدين وسط صحراء قاحلة مهاجرة للّحاق برسول الله ﷺ وزوجي إلى المدينة، فمرّ عليَّ عثمان بن طلحة
وقال لي: ما لك يا أمة الله؟ أين تذهبين يا أم سلمة؟
فقالت: أريد زوجي ورسول الله في المدينة.
قال: وحدك؟
قالت: نعم.
قال: لا والله لا ينبغي أن تكوني وحدك، اركبي على ناقتي، أنا أحملك إلى زوجك وأعود.
تقول: والله ما وجدت أعظم خُلقًا من عثمان بن طلحة، فظلّ طوال الطريق لا يتحدّث معي، يمسك بحبل الناقة ويشدّه إلى أن أوصلني للمدينة.
وعندما دخلنا المدينة قالي لي: إنّ زوجك بهذه القرية، إنّي عائد إلى مكّة.
رجل كافر لم يُسلم بعد، حمل أم سلمة 450 كيلومتر ويعود، ولا يريد منها شيئا!

إنّها النّخوة!

فالنّخوة هي المروءة، والنّخوة على أكثر الأقوال رجوحاً عند أهل اللّغة مختصّة بالرّجال دون النّساء، فهي تعتبر من تمام الرّجولة، بل قد يعتبرها الكثيرون ميزان الرّجولة، فالنّخوة هي كل ما تحمله النّفس من طبائع حميدة تحمل صاحبها على أفاضل الأخلاق وأحاسن العادات وأطايب الكلام، وهي تأدّب صاحبها بكل أدب رفيع وهي أيضا هَبّته لنصرة كل حقّ.

تُرى أين أصبحنا اليوم من هذه الشّيم والأخلاق وأين ذهبت نخوتنا؟ تُراها ترجّلت عنّا وتركتنا أم تُراها ذاهبة إلى غير رجعة؟ عندما ترى رجلا أو شابّا بعربات المترو أو بالمواصلات جالسا على كرسيه لا يتحرّك له ساكنًا وهو يرى سيّدة في عمر والدته أو فتاة مثل أخته أو عجوزا وهو يتطلّع إليهم ثمّ يغضّ طرفه عنهم وكأنّ الأمر لا يعنيه! أين هي اليوم عندما ترى الشّباب متكالبين على فتاة تسير بالطّريق وهم عازمين على النّهل منها، والبقيّة يشاهدون ويكتفون بالصّمت؟ أين النّخوة اليوم من شباب كالهضاب لازالوا حتّى اليّوم يتركون أبويهم أو حتّى زوجاتهم وبناتهم ينزلون إلى الأسواق لقضاء حوائج المنزل وهم جالسين أمام التّلفاز؟ أين هي اليوم من رجلٍ يرى ابنته أو زوجته خارجة من المنزل وهي متبرّجة تبرّج الجاهلية الأولى بل أضلّ سبيلا ولا يوجّهها أو ينهاها؟ أين هي اليوم من رجل يرضى لأهل بيته أن يتراقصن في الأفراح والمناسبات والنّاس من حوله يخوضون في عِرضه؟ أين النّخوة من شخص يرى جريمة أو مظلمة ويرفض أن يتدخّل أو يتقدّم بشهادته خوفا من التّنكيل؟ أين هي اليوم من رجل يعتدي على والديه أو زوجته بالشتم والإهانة؟ أين هي اليوم من شاب يمسك بتلابيب رجل ضعيف أو عجوز وينهال عليه بالضّرب والسبّ؟ أين هي اليوم من أخ أو صديق وهو يتخلّى عن أخيه بأزمته ولا يمدد له يد العون ويتحجّج بأنّ الأمر لا يعنيه؟


تعلمون لمن النخوة اليوم ؟
لمن ستر مؤمنا وكتم سرّا وكبح جماح شهوته عن الخوض فيه والإفصاح عنه، لمن كفّ النّاس والمارّة عن عرض فتاة وتحمّل عوضا عنها ما لا يُرضيه في سبيل إنقاذها، لمن أعان محتاجا جار عليه الزّمن وهو في أمسّ الحاجة لذلك، لمن وجد غيره في محنة فوقف إلى جواره حتّى زال البأس ورحل غير منتظر جزاءً ولا شكورا، لمن آثر عجوزا أو ذا حاجة على نفسه بوسائل المواصلات أو بغيرها، لمن قدّم نُصحًا في غير أهله عسى أن يهديهم الله ولم يفكّر بعاقبة الأمر أو ردّة فعلهم، لمن تغافل وعفى وكظم غيظا لأجل بقاء ودّ، لمن أوفى وأخلص وجازى بالإحسان وإن لاقى أذى وجورا، لمن أبى على نفسه الذّلّ والعار وهبّ لنُصرة الدّين والقضيّة، لمن صدح بكلمة حقّ في وجه طاغية أو صاحب نفوذ ولم يخْشَ في الله لوْمة لائم في حين آثر الجميع الصّمت خيفة البطش، لمن تحمّل في سبيل وطنه الكثير والكثير خلاف الذّين تنازلوا عنه تحت أقدام الطّغاة لأجل منصب أو حفنة مال.

فلا خير في أمّة ضاعت النّخوة والشّهامة فيها ولا أجد ختامًا خيرا من قول أمير الشّعراء:

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلَاقِهِمْ.. فَأَقِمْ عَلَيْهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلًا




لقراءة نص التدوينة الأصلي على مدونات الجزيرة اضغط هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق