الجمعة، 16 يونيو 2017

وتلك الأيّام ..



"من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه إعادته". 

فـالتاريخ مرآة الشعوب والعقول، فإن تجاهلناه وتغافلنا عن النظر فيه فلن نرى عوارتنا، ولن نستطيع قراءة ما حدث وما قد يَحدُث. التاريخ يلعب دورا كبيرا في الصراع بين الأمم والعقول، فالعقل البشري مهما كَبرَ نتاجه من الأفكار والاستنباطات فلن يقدر طوال الوقت على ذلك وإن كانت قدرته لا محدودة، فلا قِبل لها بمجاراة الواقع وتسارُع الأحداث التي أغلبها مرت بالأمم وتكاد تكون استُهلكت من قبل بأزمنة مختلفة، وهذا ليس معناه أن العقل لن يستطيع استنباط المزيد ولكن مغزى حديثي أن الطغاة والغزاة والخونة والمتآمرين وغيرهم، -عن علم أو عن جهل-، لابد أن يكرروا مواقف وأفعال سبق استخدامها في عصور مضت، حيث "إنّ التاريخ يكرّر نفسه لأنّ الحمقى لم يصغوا إليه جيّدا في المرّة الأولى" د.أحمد خالد توفيق. 

ومن أسوأ صور توارث التاريخ لدى الحكام استغلال جهل شعوبهم في زرع الفتنة والتفريق بينهم، واستغلال الدين أو غيره وتطويعه في طغيانهم، إذْ يقول علي شريعتي "إذا اُستغل الدين من قبل السلطات الحاكمة لحفظ مصالحها فستحصل أسوأ فاجعة يسحق فيها الإنسان في الأنظمة المعادية للإنسانية، ويصبح الدين شهيداً في سجلات التاريخ". دعوني أفرد لكم من تلك المقولة شاهدا من التاريخ من سيرة "محمد بن تومرت" مؤسس دولة الموحدين بنهاية عصر الإسلام بالأندلس، ولستُ هنا بصدد ذِكر مساوئ الدول ولا تجميلها، فهذا يطول شرحه، ولكن العبرة من كلماتي إظهار استغلال الدين أو غيره في سياسات الأمم والتنكيل ببعضها البعض تحت غطاء الدين كما استخدمها ابن تومرت كَحُجة في القضاء على دولة المرابطين السنية وقتالها.

اختلف المؤرّخون في تحديد نسب ابن تومرت، فبعضهم قال إنه عربي وينتهي نسبه إلى الرسولﷺ، وبعضهم يجعل نسبه بربرياً صِرفا، والبعض الآخر يجعل نسبه مختلطا بين البربر والعرب، وإن كان ابن تومرت والموحدون من بعده يصرون على أنّه المهدي عربي النسب، قرشي من صلب الرسول ﷺ. والمتأمّل في تاريخ ابن تومرت يدرك أنّه لم يُظهر ادّعاءه النسب القرشي دفعة واحدة، بل إنه تدرّج في هذا الأمر، حتى يضمن قبول الناس له، فبعد أن اطمأن إلى قبول دعوته وتمكنّه من أتباعه، أخذ يشوّقهم إلى المهدي ونسبه، ثمّ لمّا قبلوا هذا الأمر ادّعاه لنفسه. 
وقد بدأت رحلته في عام (500هـ) فحجّ وشرع في طلب العلم، ودامت رحلته خمسة عشر عاماً كان لها الأثر المباشر في تشكيل شخصيّته والتأثير المباشر في آرائه وأفكاره، فمكث في العواصم الإسلامية من أجل التعلّم والتتلمذ على يد العلماء في كل من بغداد والإسكندرية والحجاز، حيث بدأ من قرطبة إلى مصر ثم إلى الحجاز، ومنها نحو العراق ومكث بها ما يزيد على عشر سنوات، وهناك تبحّر في علم الكلام وعقائد الاعتزال والأشاعرة، وأخذ من كل ما يخدم فكرته طرفاً. وفي عام (510هـ) شرع في عودته إلى مسقط رأسه التي استغرقت أربع سنوات، وكان خلالها يتوقف بكل القرى والمدن التي يمر بها وينشط في نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يخدم أهدافه ويتحمل المصاعب والمشاق، ويشكل خلايا تابعة له في بعضها.

ولقد تقاربت أفكار الكثيرين ممّن قابلوا ابن تومرت، خاصة في ما يتعلق بالخروج على السلطان، مثل "عبد المؤمن بن علي" الذي كان له دورا عظيما معه في تقويض دولة المرابطين وإسقاطها. كان توجيه ابن تومرت لأتباعه في حملته الإعلامية الكاذبة ضد دولة المرابطين التي أقامت كيانها على مذهب أهل السنة والجماعة والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فقد طعن في عقيدتهم ووصفهم بأنهم مجسّمون وكفار لا تجوز طاعتهم ولا الولاء لهم، بل يجب جهادهم ولهذا قاتل الموحدون المرابطين قتال المسلمين للكفار حسب اعتقادهم. كما تساهل في إراقة الدماء، حيث كان لا يتردد في ذلك حينما يخدم دعوته أو يحقق شيئا من مطامحه مهما كانت التضحيات المقدمة لهذا الغرض، وقد تأصل هذا العمل عنده حيث ألبسه لباساً شرعياً.
وذكر كل من البيذق وابن القطان وغيرهما من المؤرخين أنّ ابن تومرت كان يقوم بما يسمى بعملية التمييز لأتباعه، حيث يقتل كل من يشك في ولائه لدعوته. وكانت مخادعته للنّاس في قضية التمييز باتفاق مع "عبد الله بن الونشريشي" وكان أحد أتباعه المقربين حيث طلب منه أن يُخفي علمه وحفظه للقرآن ويَظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه ويُظهر العجز والغباء والتعرّي من الفضائل ممّا يشتهر به عند النّاس، ثم يفصح عنه دفعة واحدة عندما يُطلب منه ذلك، فيكون بمثابة المعجزة فيصدّقه النّاس ويزداد إيمانهم بدعوته!

قال الذهبي: " فلمّا كان عام تسعة عشر وخمسمائة خرج ابن تومرت يوما فقال : تعلمون أن البشير -يقصد الونشريشي- رجل أمّيٌّ ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مبشّراً لكم، مطّلعا على أسراركم، وهو آية لكم ، قد حفظ القرآن وتعلّم الركوب وقال: اقرأ ! فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصاناً وساقه، فبُهتوا، فقام خطيباً وتلا: " لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (الأنفال 37)
وتلا: " مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" ( آل عمران 110)، فهذا البشير مطّلع على الأنفس، مُلهم، ونبيّكم يقول : "أنَّ في هذه الأمة محدثين، وإن عمر منهم " (البخاري 7/42) 
ثمّ نُودِيَ في جبال المصامدة: من كان مطيعًا للإمام فليأتِ، فأقبلوا يهرعون فكانوا يُعرضون على الونشريشي، فيُخرِج قومًا على يمينه ويعُدّهم من أهل الجنّة، وقومًا على يساره هؤلاء شاكّون في الأمر فيقتلهم.


وحتّى لا تلقى هذه الأعمال معارضة عند أتباعه فإنه كان يُظهر شيئا من الخوارق والمعجزات حتى يؤصّل في نفوس الناس شرعية ما يقوم به. 

فقد ذكر المؤرّخون أنّه كان يتواطأ مع البعض من أصحابه على أن يدفنهم في المقابر وهم أحياء حيث يترك لهم مكانًا للتنفّس، ويأمرهم بأن يكلّموه إذا دعاهم، وليشهدوا له بما يطلبه منهم كأن يشهدوا بأنّه معصوم وأنّه المهدي الذي بشّر به رسول ﷺ ، وأنّه هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت جورًا وظُلمًا، وأنّ من اتّبعه أفلح، ومن خالفه خسِر، وحينما يسمع أتباعه أن الموتى يكلّمونه، ويشهدون له بصحة ما يدعو إليه، يعظُم اعتقادهم فيه وتتأكّد طاعتهم له، أما أولئك المقبورون فإنّه بعد أن ينهوا المهمة التي من أجلها قُبروا، يستبيح دمائهم حيث يهدم عليهم قبورهم حتّى يموتوا، لكي لا يفشوا سرّه بعد ذلك. 
هذه صورة من أفعال ابن تومرت التّي استحلّ بها دماء النّاس بغير حق حتى أنصاره و المقرّبين له. 

و في الختام وجب الإشارة إلى أنّ التاريخ ماهو إلّا انعكاسا لحاضرنا وكما أنّ به طغاة لم يتوانوا لحظة عن فعل أي شيء يخدم أغراضهم، فيه من الإشراق و العادلين من نَعِم العالم في حكمهم. 

وأخيرا "من يقرأ التّاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبدا وسوف يرى الدنيا أيّاما يداولها الله بين النّاس" –د مصطفى محمود .. 
ولا غالب إلا الله .. 


لقراءة التدوينة على مدونات الجزيرة اضغط على و تلك الأيّام..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق